ليكمل طريق الجهاد، وليستشهد غريباً ويدفن جسده غريباً..
أطلّ وجهه مع إشراقات شمس الربيع الدافئة، وكانت مناغاته عزفاً، يوقظُ الحنين في القلوب.. "فاروق" الذي كلما اقترب أهله منه أحبوه أكثر، وتعلّقوا به.. لم يكن سهلاً عليهم اكتشاف السرّ الذي يجعلهم مشدودين إليه بقوة، لكنهم لمسوا وأحسوا أنه حتماً ليس كغيره.
كانت دائماً ساحة وطرقات قرية دير قانون النهر مليئة بضجيج الفتية الذين لا يملون من اللعب، ولكنّ تواجد فاروق بينهم كان يضفي جواً آخر من الفرح.. فتىً هادىءٌ متزنٌ، لا تفارق لمسات الهدوء سحنته السمراء الجنوبية، عيناه تشعان ذكاءً شهد له الجميع به، فعندما كان في الصف الأول الإبتدائي طلب إليه أستاذ الرياضيات أن يحلّ تمارين أحد الدروس، فإذا به قد حلّ تمارين الكتاب كله، فاستغرب الأستاذ لذلك وراح يسأله عن سبب فعلته، فضرب فاروق حقيبته بالأرض مستنكراً مطالباً الأستاذ بأن يعطيه كتاب الصف الثاني..
قد عرض على الشهيد فاروق العديد من الفرص التي يحلم بها أي شابٍ ناجح يسعى لتدعيم مستقبله المعنوي والمادي، وفتحت أبواب السفر مشرعة أمامه لمتابعة دراساته العُليا، لكنه بقي في الوطن، ليكمل طريق الجهاد، وليستشهد غريباً ويدفن جسده غريباً، غير أن ذكراه الطيبة، وذكرياته التي يلهجُ بها أهله ورفاق دربه في المقاومة الإسلامية وفي التعبئة التربوية وبين تلامذته في المدرسة، تبقى منارةً تُضيء فينا زوايانا المظلمة..
على بياض أوراقه كان يخطّ للنصر حكايا، يجسّدها عند الفجر على المحاور. يعانق الموت ألف مرّة، وفي الصباح تراه في سوح العلم يحاضر كنجم لاح لناظر، كوجه ملاكٍ عابر. ليله جهاد، كلّ الميادين تعرفه؛ كلّ المعابر والمواقع والتلال والسواتر. كانت أحياء قريته ساحة جهاده، مسجد القرية، بيوت الرفاق... الساحات كلّها شهدت طفولته. لم يرضَ أن يلعب مع رفاقه إلّا دور مقاوم أو شهيد. لم تُعِقه الدراسة يوماً، ولم تثنِه عن الجهاد. كلّما أنهى عاماً من الدراسة، اجتاز مسافة بين الموت والحياة.
الأستاذ فاروق، المدرّس النشيط الذكيّ، صاحب الصفات الطيّبة، كان المقاوم في ليل الكمين، الحاضر في المواجهات، النجم في الميادين، الساحر في كلّ المحافل، صاحب السجود الطويل، وصلاة الليل، ودعاء الحزين، وزيارة الحسين عليه السلام. المجاهد الصامت، انتقى الرحيل الأجمل، طوى صفحات العمر، وآثر أن يسافر إلى طفّ الحسين عليه السلام؛ ليلتقي العبّاس وحبيباً وعابساً.
هناك، على تخوم الموت، لم يترك بندقيّته، لم يستسلم وإن أُصيب، ولم يمت وإن فارق الدنيا، لم ينكسر وإن سقط، لم تنحنِ هامته وإن ختم بالقاني رحلته، وإن أُسر جثمانه. مثله لا يموت، ما زال يقاوم، وسيعود مع القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف.