أمسح شعرك الناعم... لا أستطيع أن أصدق... أحقاً أنت استشهدت؟ أغمض عيني . أتمنى أن يكون كل شيءٍ مجرد منام لا أكثر... أحضن جثمانك و أعود بذاكرتي إلى طفولتك.
كنت أريد أن أجهض....
عندما رجعت إلى بيت أبي بعيونٍ باكية... وكنت أعرف أنني لن أرجع إلى بيت زوجي من جديد... بعد زواجنا بمدة قصيرة... ربما شهر واحد... لا أتذکر... لا أرید أن أتذکر... عندما عرفت أنني حامل بدأت بالبکاء... کنت أرید أن أجهضك... لم أكن أريد أن يربطني شيء بالماضي... أخذت الموعد مع الطبيبة... مسحت بطني الذي لم يكن يبدو عليه أثر للحمل بعد.... بدأت بالبكاء... كأنني كنت أسمع صوتك... كنت تبكي و تقول:
- ماما ... ليس لي أحد غيرَكِ أنتِ... إسمحي لي أن أعيش ....
لم أذهب إلى موعدي مع الطبيبة... فتح والدي الباب... نظرت إلى عيونه وقلت ...
- لم أستطع ....
ابتسم والدي و حضنني... شعرت بالأمان العجيب... في حضن والدي.
كنت أراقبك من النافذة وأشرب الشاي.. كنت تلعب مع الأطفال بين الأشجار قرب بيتنا... كان في أيديكم الصغيرة سلاح خشبي... بعضكم كانوا يمثلون أنهم من القوات الإسرائيلية، وبعضكم مقاومة... كنت أسمع صراخك بصوتك الطفولي ...
- أنا مقاومة... أنا مقاومة ...
ابتسمتُ بهدوء... كنت أشعر بالسعادة ...
كنت أصرخ بقوة... وجدت نفسي في الشارع... وأنت في حضني غارقاً بدمائك... وأنا ... كنت أركض إلى المستشفى... حافية القدمين... وقعت على الأرض وأنت تلعب وجرحت شفتيك... كان الطبيب يعالج جرحك الصغير... وأنا أرتعد... مثل عصفورة تخاف أن يُدَمَّر بيتها
سألت الطبیب: هل إبني بخیر؟
نظر إليّ من خلف نظاراته الکبیرة بتعجب وقال... ابنك بخير... و لكنني أعتقد أنكِ بحاجة للمعالجة ...
رأيتُ القيادي يبتسم... لم أفهم ما حدث... كان يمسح رأس كمال... جاء ليتكلم مع الأطفال في المدرسة... قال لي: سألت الأطفال ما هي أمنيتكم... كل الأطفال قالوا شيئاً... بينما کمال... قال أريد أن أستشهد في سبيل الله ...
للحظة ارتعدت... يستشهد؟؟؟ و هل یعلم بأنه کل حیاتي؟
هرع إلى البيت مع سلاحه الخشبي... كان عطشاً... طلب الماء... ملأ الكوب... كان يشرب بسرعة... ليعود إلى لعبه مع الأطفال... بعد أن شرب الماء وضع الكوب على الطاولة... سمعت صوته الطفولي... يقول بهدوء: "صل الله عليك يا أبا عبد الله " وعاد إلى الحي... ليتابع لعبه مع الاطفال
عشرون سنة... لا... بل أكثر... كنا نخرج معاً من البيت... نذهب معاً إلى المدرسة... أنا كنت معلمة وأنت كنت تلميذي... عندما أخذتك إلى أول يومٍ في المدرسة أبيت أن تتركني لتدخل إلى روضة الأطفال... كنت تريد أن تكون معي... وصل صوت بكائك إلى كل المدرسة، لدرجة أن كلّ المعلمين خرجوا من صفوفهم... والتلاميذ... كانوا يراقبوننا... حضنتك... بقوة.. وقلت بهدوءٍ في أذنك
- أنا هنا عزیزي... لن أتركك
لا أعرف كيف مضت كل هذه السنوات... في لحظة وجدت نفسي أراك تسرح شعرك الجميل أمام المرآة... وتبتسم ... مضت سنوات طويلة... قلت لي من جديد... غداً أذهب إلى الدورة التدريبية... تذكرت أول أيام ذهابك... كنت مثل عصفورة قطعوا رأسها وتضرب الأرض بريشها. ابتسمت وقبّلتني وقلت أحضري حقيبتي من فضلك.. سأعود بسرعة ...
کنت أرتب أوراقك... وجدت رسائلك لابن خالك الشهيد... كنتما تلعبان معاً منذ طفولتكما... كنت تحبه كثيراً... وهو كان يحبّك... بعد استشهاده كنت أراك حزيناً... فتحت ورقة وبدأت بقراءة رسالتك
قلبي يحن إلى من لا تبصرهم عيني و إن ذكروا له وثب
عجب يرنو لمرقدهم ولست أرى لأمرهم عجبا
جلست على الأرض... و ضممتُ الورقة إلى صدري... و أجهشت بالبكاء ...
في الليل فتحت عيني ورأيت في الظلام دموعك تجري بصمت من عينيك إلى الوسادة... خفت كثيراً
- کمال ... أحصل شيء.. ماما؟
فتحت عينيك الجميلتين ...
- لا ... کنت أسمع زیارة عاشوراء قبل النوم .
أغمضت عينيك من جديد ... كنت أرى قطرات دموعك التي كانت تجري من جديد... من عينيك الى خدك، ثم إلى الوسادة.
کنت اعرف أنك لا تذهب إلی الدورة ... أنا أمك... كيف يمكن ألّا أعرف بأنك تشارك في الجهاد... كنت أعرف هذا من وجهك المحمرّ تحت الشمس.. من ملابسك التي كانت غارقة في الوحل ... وكنت تبتسم و تقول... أذهب إلى الدورة ليس إلّا..
كنت أصلي... عندما رفعت رأسي عن التربة اقتربت مني و قلت...
- ادعي لي... الآن... أجمل دعاء
قلت أدعو لك بالصحة و العافية و التوفيق ...
ابتسمت و قلت ...
- ثم ماذا؟
نظرت إليك بغضب و قلت:
- ماذا ترید؟ تريد أن أدعو لك بالشهادة؟ لن أدعو... ألا تعلم أَلّا أحد لي غيرُك؟؟؟.
ابتسمت و قلت: السيدة الزهراء سلام الله عليها أم الشهداء ....
قلت لك: إفهمني يا كمال ... أنا لست حتى تراب أقدامها ....
ضحكت و قلت... فكري بأم البنين... كيف صبرت وقَد استشهد أبناؤها الأربعة ...
قلت باكية: كمال ... لا أستطيع ...
ابتسمت و حضنتني... قبلت جبيني و تركت الغرفة.
كنت أغسل الصحون... جئت إلى المطبخ و حضنتني من الخلف... لم أفهم كيف بدأت بالبكاء... كنت تراقبني بصمت
- أحصل شيء.. ماما؟
هززت رأسي بالنفي... كنت أشعر بأنك ستتركني قريباً ...
قلتُ لصديقك عباس ...
- هو یحبك و يسمع كلامك ... قل له أمك حزينة ... لا تذهب هذه المرة .. من أجل أمك
فأجبتَهُ أنت: ألا تحبون أنتم الشهادة؟ کیف تحبونها لأنفسکم و تمنعونني منها ...؟ إن استشهدت... اطلبوا من أمي أن تسامحني... و هي ستسامحني.
قلت: ماما أحضري حقيبتي من فضلك... صرخت وقلت: لا... لا أسمح لك أن تذهب... أين تريد أن تذهب؟ سوریا... القلمون؟ القصير؟ حلب ؟؟؟؟ أين؟؟؟؟ لا تترکني... لو کان واجبك فأنت لم تكن مقصراً إلى الآن... تتركني... تترك الجامعه؟!... حضنتني وقلت... أعِدُكِ... صدقيني لن أذهب إلى سوريا... فقط لمدة أسبوع أذهب إلى البقاع على الحدود... لا أكثر... أعدكِ أنني سأعود وأدرس ... ولن اترككِ... ابتسمي...
كنت حزينة... كنت ترتّب شعرك أمام المرآة... و ترش العطر... و كنت أنا أراقبك عبر المرآة... و قلتُ بسرور: هل أنت ابني؟؟؟ طویل... رشیق... جمیل... ابتسمت... نظرت إليّ في المرآة وقلت
- يا لحظك و سعادتك يا كمال... لك أم صغيرة جميلة... تراقبك عبر المرأة و تبتسم... ماذا تريد أكثر من هذا ...
لم أستطِع ألّا أضحك ...
قبلت جبيني و خرجت من الغرفة مع هذه الجملة
-تصالحنا؟
وأنا قلت بهدوء ...
- تصالحنا
كان سریرك قرب سريري. ظننتك نائماً. کنت أعرف أنني غداً عندما أذهب الى المدرسة، ستكون أنت نائماً، و قبل أن أعود إلى البيت ستذهب ...أخذت يدك الكبيرة باكية في الظلام... كنت أريد أقبّل يديك... فتحت عينيك ولم تسمح لي بذلك... قبّلت أنت يدي وقلت ...
" أنت أبي... أنتِ أمي... وكلّ حياتي... لا تقلقي... سأعود بسرعة... وهذه المرة لن أترككِ أبداً "
اتصلت أختي... كنت في الصف... لم أجب على الهاتف... اتصلت من جديد... و مرة أخرى... خرجت من الصف
- أهناك شيء ؟
- أمّنا مريضة جداً... أسرعي إلى البيت ...
وصلت إلى البيت... وجدتُ زقاقنا مزدحماً... كلّ أهل الحي اجتمعوا... سقطت محفظتي من يدي... کلّ الحيّ کان یدور أمام عیني... مثل ذاك اليوم عندما حملتني في المدرسة ... وكنت تدور بين الغرف... وكنت تضحك... كنت أقول... أنزلني إلى الأرض... سيؤلمك ظهرك... كنت تضحك وكلّ المعلمين كانوا يضحكون معك... دخلت البيت... كلّ العيون كانت متورّمة... ارتعدتُ بشدة... عندما سمعت اسم كمال... أغمضت عيني... ولم أسمع شيئاً آخر...
هجموا على الحدود... أصبت في صدرك بشدة... وصديقك أيضًا... كان يحاول أن يبعدك عن ساحة المعركة... كان يناديك
- کمال ... أنت بخیر؟ ... لا تغمض عینیك ..الآن تصل سيارة الإسعاف. هل تسمع كلامي.. كمال ...
كان الرصاص ينزل من الأرض و السماء ...
- کمال ... هل تشعر بالألم؟
- لا... لا أشعر بشيء
أغمضت عینیك... قرّب صدیقك أذنه إلی فمك
کنت تقول بهدوء ....
- یا حسین ... یا زینب
أفتح كل صباح نافذة الغرفة... أنظر إلى سريرك الخالي وصورتك الباسمة فوق الجدار... أراقب لعب الأطفال في الحارة... عندما يلعبون بأسلحتهم الخشبية... وأسمع صوتك بين أصوات الأطفال... تصرخ بصوت مرتفع ...
- أنا مقاومة
*بقلم الكاتبة الإيرانيّة رقيّة كريمي عن لسان والدة الشهيد كمال الدين كيكي