حضور الله في قلبه.. حبيبه رسول الله.. العابد، المتهجّد، الرّحيم، المتعلّم، المتواضع...
سأكتب بعض ما رأيته وعرفته منه مباشرة دون ما سمعته من الآخرين:
ذكر المحبون جوانب عديدة من شخصية « باقر » منها ذوبانه في الزهراء والحسين عليهما السلام ، وهناك جوانب أخرى لم يُسلط عليها الضوء ، منها :
باقر ، غارق في التوحيد ، حضور الله في حياته بلغ درجة عالية ، يتحدث عن الله حديث العاشق عن معشوقه ، حديث حبيب يذوب بحبيبه ، لا يقرر لنفسه بل يترك القرار له تعالى وكانت الاستخارة هي الفصل في كثير من قراراته ليس لأنه متحيراً بل لأنه يريد ترك الأمر له تعالى .
قبل أيام من عروجه كنّا نتحدث عن الشهادة فقال لم يعد يهمني كيف أغادر وبأي طريقة ، لا فرق بين أن أقتل أو أموت بمرض أو حادث ، فليفعل الله بي ما يُحب . المهم أن ألقاه وهو عني راضٍ ، المهم الخاتمة على الايمان والتقوى …
قبل أيام بينما كان يتحدث عن الله تعالى بكل عذوبة ورقة قال : لقد مرّ عليّ رواية جميلة وعظيمة وهي « من صام تسعة أيام من رجب خرج من قبره وهو ينادي : لا اله الا الله » ، وأخذ يحدثني عن لذة تلك المنزلة حديثَ الموحِد الصادق الذائب بحبيبه …
( ملاحظة : عندما يتحدث باقر عن الله كل ملامح وجهه تختلف وتتحول إلى ملامح من يشتاق لحبيب ويذوب في ذكراه ) .
كذلك كنا نتحدث قبل مدّة قصيرة عن مقاطع أدعية تعتبر استراتيجية فقال يستوقفني هذا المقطع في المناجاة الشعبانية : « إلهي وألحقني بنور عزك اﻷبهج، فأكون لك عارفًا، وعن سواك منحرفًا، ومنك خائفًا مراقبا» بك عارفا وعن سواك منحرفا ، هذا ما كان يريده أي تطهير قلبه عن كل غير الله …
باقر كان عاشقاً لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وكان الشوق لرسول الله والحنين إليه يسكنه ، يتحدث عنه حديث والهٍ فيه ، فالرسول عند باقر هو تجلي ومرآة لجمال وجه الله ، لذلك كانت أمنيته أن يرى سبحات نور وجه الله بمنظار رسول الله …
باقر ، كان لا يأكل صنفين في الوجبة الواحدة ، ويتذكر قول علي عليه السلام : « بنية أتقدمين إلى أبيك إدامين في فرد طبق واحد؟ أتريدين أن يطول وقوفي غدا بين يدي الله عز وجل يوم القيامة» .
كان قد ترك أكل الدجاج واللحم منذ فترة ، وعندما سألته عن السبب قال أنا أحب تناولهما لكن ذلك يعين على رقة القلب وغزارة الدمعة . وعندما قلت له لا تترك تناولهما بشكل مطلق أقله عندما تكون ضيفاً عند أحد ويقدّم لك طعاماً فيه لحم أو دجاج تناول منه ؛ وبذلك تكون قد اتبعت الحد الوسط . سكت قليلاً ثم قال : في بعض الاماكن أنا مسؤول عن أخوة مجاهدين ولعل بعضهم لا يقدر على تناول مثل ذلك …
باقر ، في بدايات شهر رجب كان في مكان ولم يجد كتاب مفاتيح الجنان ، وعندما التقيته وأخبرني أنه يريد نسخة من الكتاب ، حينها قال لي : حاولت أن أتذكر شيئا من أعمال هذا الشهر فتذكرت أنه ورد استحباب قراءة سورة التوحيد عشرة الاف مرة خلال الشهر ، فقررت أنا اتلوها في كل يوم عشرة الاف مرة …
لا أنساه وهو يصلي صلاة ليلة الرغائب - قبل أيام - ودموعه تُغرق وجهه .
وفي مرة سألته إن كان صائماً فقال : كل يوم أكون ناوياً للصيام وهذا ما شاهدته منه …
عمل في سوريا بمنطقة فيها شيعة فقراء فكان دائم التفكير والسعي كيف يؤمن لهم شيئاً من المال حتى كان يصرف موازنته الخاصة به على علاج مريض أو مساعدة محتاج منهم …
باقر ، الحنون جداً ، الجميل جداً ، المتهجد العابد ، أتعب نفسه لآخرته وأراح الناس من نفسه ، الاستثنائي الذي لا تهمه العناوين والالقاب ، كان يصوم ويصلي نيابة عن الغير ويصرف المال الذي يأخذه على إحياء المجالس أو مساعدة فقير مع أن حالته المادية قد لا تكون أفضل من حالة الفقير الذي يساعده ، باقر الذي كان يعشق خدام الإمام الحسين والخدمة الحسينية …
في العام ٢٠١٧ كلمني وقال : « بدي اعطيك شي » . وعندما التقينا قدّم لي مفكرة يومية صممها بنفسه وطبعها على نفقته تحتوي برنامجاً سلوكياً - وفق تعاليم الشيخ بهجت قدس سره - وجدولاً يومياً للاذكار ومراقبة النفس ( سأرفق صورة منها مع المنشور في التعليق الأول ) …
قبل أيام قال لي ، ذهبت الى القرض الحسن وجددت قرضاً على شيء يسير من قطعات الذهب ( لاولاده) وسددت منه جزءاً من ديوني والباقي سأشتري به سيارة ب ٨٠٠$ للتنقل بها الى العمل ( علماً أن المبلغ لم يكن يكفي لذلك وسيبقى جزء من ثمن السيارة ديناً في ذمته ) مع أن تامين السيارة ليس على عهدته بل على عهدة العمل ، وقال لي : جعلتك وكيلاً عني في القرض ، عندما استشهد أرجو ان يبقى ذلك الذهب كصدقة جارية لمن يريد أن يقترض عليهم حتى يكبر أولادي فتوزعهم عليهم …
باقر ، كان يتحمل أذى الاخرين ويتحمل الخطأ الصادر منهم تجاهه دون أن يشعرهم بالذنب ، فقد كان قلبه كبيراً إلى حد أنه يتجاوز عن أي شيء من أي أحد قربة لله تعالى ، وكان يدعو لهم في صلاة الليل . وفي الحقيقة كان سرّ هذا التعامل هو أن باقر كان يرى جميع الخلق « عیال الله» کما في الرواية وكان يلتذ بالتعامل الحسن معهم ولو جاروا عليه لأنهم مرتبطون بالله تعالى ومنتسبون إليه …
درس باقر الفلسفة في الجامعة اللبنانية ، ودرس الفلسفة الاسلامية والعرفان النظري، وتابع كثيراً في ذلك العلم ، وكان يطالع كثيراً ، وفي بعض الفترات كان لا ينام الليل بل يقضيه بالعبادة وطلب العلم ، وكان يكتب ويلخص ويتابع المعلومة ما أمكنه ، وكانت سيارته عبارة عن مكتبة متنقلة ؛ فكتبه كانت معه حيث يذهب …
باقر، أطلق على نفسه في شخصيته الجهادية اسم «خميني» ، وخلال طوفان الأقصى كان يُنادى باسم «همت» وهذا يكشف عن أبعاد شخصيته ، فمن يقرأ سيرة الشهيد « همت » ويعرف عظمة الإمام الخميني يمكنه معرفة أين كان يحلِّق باقر وبأي مدى …
المجاهد الشجاع « خميني » قاتل على جبهات القتال المختلفة ، فهو الحاضر في العراق وسوريا ولبنان ، قاتل التكفيري والاسرائيلي ، لم يكن يأبه بالمنصب أو المسؤولية فهو الخارج من سلطان الجاه والشهرة .
باقر المُدرِب ساهم في إعداد المجاهدين وتدريبهم . باقر كان رسالياً في تدريبه العسكري ، يغلِّف المعلومة بروحيته الولائية ودمعته المواسية .
كثيراً ما كان يقول لي سأذهب إلى العمل في المكان الفلاني ، وعندما أسأله عن مدى معرفته بالمسؤول عن العمل يقول : نعم أعرفه فقد دربته في المكان الفلاني ، أو كان يساعدني في العمل الفلاني . وهذا يعني أن باقر سيعمل تحت إمرة من كان مسؤولاً عنه في مكان آخر وعمل آخر ، ولم يكن يدخل في نفس باقر أي شيء من ذلك ، لا حساسية لديه ولا إحراج في هذا الأمر
هذا ما يمكن قوله ، ويبقى الكثير من سرّه ، وبعض سرّه لا يعرفه الا الله ، هنيئاً لك يا حبيب القلب ، والله لقد بعثر رحيلك كياننا المنهك ، فسلام عليك يا أخي وان شاء الله نلتقي قريباً …
* الشيخ عباس ابراهيم