بطاقات الشهداء

سرًّا أعرفهُ

سرًّا أعرفهُ

أوجس علي الهادي خيفة في نفسه من كلام أمه في تلك الليلة... فهي لم يسبق لها أن تحدّثت معه بهذه الصراحة، فاسترسلتْ بما يفيضُ في قلبها حتى خشي عليها من حديثها، وصار همه أن ينتقل إلى حديث آخر، ولكنه لم يفلح...

فراحت تغازله وهي تنظر في عينيه وتصفُ بسمته التي ما أن تفتر شفتاه بها حتى تغرقُ عيناه ببريقهما...

ربّتت كتفته قائلة: أتعلم يا علي، أنتَ لن تشعر أبداً بضغطة القبر إن لم توّفق إلى الشهادة... 

فتبسم لها قائلاً: ولم يا مَيْمِي (أمي باللكنة الشامية) ... 

قالت وهي تفتلُ خصلة من شعره: لأنك مرضي جداً... أنت شاب بار بوالديك... سكتتْ برهة وقالت: أتعلم... هذه المرة عندما تذهب إلى المحور لن أتحدث معك... 

عقد على حاجبيه تعجباً ونظر إليها قائلاً بصوت خالطته نبرة عدم التصديق: لن تفعلي ذلك! نحن على اتصال دائم، فلماذا هذه المرة؟ 

نكستْ رأسها وسكتت... فأكمل: توكلي على الله، لماذا تحدثيني هكذا ما بك؟ لقد حضرتُ كل شيء لنذهب في زيارة الاربعين ان شاء الله، وأعاهدك يا مَيْمِي أنك لن تذهبي إلى هناك إلا معززة مكرمّة...

أمسكت بيديه وفركتهما: أخبرني يا علي... هل تخاف منهم؟

أجاب مستهزئاً: إن لهم وجوه مرعبة حقاً... منذ صغري وأنا أتساءلُ كيف هي وجوه من قتلوا الإمام الحسين عليه السلام... الشمر... يزيد... كثيراً ما كنتُ أحاول أن ارسم وجوههم فعجزتُ عن ذلك، ولكني الآن رأيتُ من يشبههم بأم عيني، وجوه يفوح الرعب من بين تقاسيمها، ولكن الرعبَ لا يُقذف إلا في قلوب الذين كفروا، وأما الذين آمنوا بالله، فقلوبهم مطمئنة؛ ووجوههم مستبشرة...

نظرت في عينيه اللامعتين وقد فترت شفتاه عن ابتسامة حزينة لما يسمعه منها: أعدك يا علي، لن اتركك... إذا عدت شهيداً سأفتخر بك، وسأقرأ لك ما تيسر من القرآن والدعاء... ولن أصرخ، وإن سالت دمعتي فهي دموع الفرح لأجلك، ولأجلي لأنك بيضت وجهي... سأزفك عريساً، أيام قليلة جداً ويصبح منزلك صالح للسكن... والفتاةُ التي انتقيتها لك، إن كانت من نصيبك فسأفاتحها بالموضوع، وإذا لم يحدث ذلك فهذا لسرّ أعرفُه...

سوى علي الهادي من جلسته ونظر إلى أمه: ما هو هذا السر...

نكست رأسها: أخبرك به لاحقاً...

التهبت نار في قلب علي الهادي ... فأمه قدّمت أخويها شهداء، والتاع قلبها لفراقهما، فكيف إذا لم يعد...

أمسك بيدها: لقد جهزتُ كل شيء لزيارة الأربعين... أينما كنتُ، تذكري أن موعدنا في الاربعين ان شاء الله...

في اليوم التالي التحق علي الهادي بعمله الجهادي... كان يطمئن إلى أمه عبر اخته أو أخيه بناءً لطلبها... فأدرك أن قلبها وشى بما في قلبه... وعرفت أنه لن يعود إليها...

وكانت عند وعدها له بعد عودته... قامت بكل ما وعدته به وزفته عريساً... وهمست له في لحده: أتريد أن تعرف السر يا علي؟! أن الله اختار لك حور العين عروساً يا هادي...

وأثناء استقبالها الناس في العرس الذي أقامته أطلّ من بين الناس رفيقه الذي كان معه في الأيام الأخيرة، جلس بالقرب منها قائلاً: كان علي دائم القلق لأجلك... وقال لي أنه حضر كل شيء من أجل سفركما في زيارة الاربعين، وطلب مني أن أقول لك؛ أنه إذا لم يكن من المسافرين، فسيكون من المستقبلين...

انفرجت ابتسامة مشرقة وهي تقول: لقد وعدني أن أذهب معززة مكرمة... وسأذهب إلى موعدي معه.