كان ذلك قبل نحو عشر سنوات، عندما دخلت للمرة الأولى إلى المبنى العمودي المتهالك في منطقة الكولا.
لم تكن تعرف كثيرا عن بيروت وأحيائها، أنت الشاب الذي غادر ضيعته ليلتحق بكلية الإعلام في الجامعة اللبنانية. لكنك حملت ضيعتك معك. كان في ملامحك شيء من الجنوب، تتكلم فتسبقك لهجة جنوبية لم يلوثها غبار المدن. تغرق عيناك في حياء دافئ من المحال أن ترفعهما في محدثتك. كنت دائم الاستعجال، تلاحق زمنا تخاله يهرب منك. لا تطيق القعود طويلا في قاعة المحاضرة ولا وقت لديك لثرثرة عابرة او لفنجان قهوة في كافيتيريا كليتنا العبقة دوما برائحة المدخنين. مأخوذا كنت بانشغالات لا نعرفها. وكيف لنا أن نعرف أن لك حياتين تعيشهما معا وأن وجودك بيننا كان هو المؤقت وأنك كنت تحجز مسبقا مكانا لك أبعد من ان يصله خيالنا، نحن، الذين نعيش يومنا بتفاصيله المملة.
تأتي إلى الجامعة و روحك في الجنوب. كانت بيروت أصغر من أن تتسع لك. حتى الضاحية لم تشفع وجهتها الجنوبية في جذبك إليها. كنت منجذبا اليه وحده فكنت تسارع الوصول اليه عصر كل جمعة. أذكر اني عندما استغربت إلحاحك على الذهاب الى الجنوب ذات يوم ماطر، انك أشرت بسبابتك جنوبا وقلت محلي هناك. هكذا على مدى سنوات أربع كنت بيننا تأتي وتذهب من دون أن ينتبه إليك احد. فأنت لم تكن جغلا في محيط أنثوي ولا متحدثا يحسن اللعب بمفردات السياسة.
خرجت من كليتك الى مطرحك الذي اخترته أنت. ربما لن يتذكرك أساتذتك وقلة من زملاء المهنة قد يفتقدونك. فأنت لم تصبح نجما تلفزيونيا ولا صحافيا ولا تحولت الى مراسل حربي. لم تكن من الذين يحررون الخبر، بل صنعت الخبر والصورة لهم جميعا. كنت محررا ولكن من طينة أخرى.. مقاوما يتحرك بيننا منذ اليوم الأول لدخوله المبنى العمودي، مقاوما سنكتشف هويته بعد عشر سنوات حينما يصبح اسمه خبرا في جريدة.. لا ندري بالتحديد أين استشهدت في بنت جبيل.. عيترون.. مارون الراس.. عيتا الشعب.. في مكان ما من هذا الجنوب! ما نعرفه أنك قاتلت بجسمك في أشرف معركة واستشهدت بصمت دون ضجيج بعيدا عن عدسات المصورين وحشرية زملاء الدراسة. حتى خبر استشهادك لكثرة تواضعه لن يحتل اكثر من سطرين في خبر في صفحة في الصحيفة.
سنعرف أنك تزوجت وربما صرت أبا. ترى بماذا فكرت يا حسام قبل ان تغمض عينيك وترحل الى مكانك الاخير؟ هل فكرت لمن ستهدي نصرك هذا؟! ليتك تقطع شك مثقفي المقاهي وتجار السياسة وتخبرهم إن كنت لفظت الشهادتين بالفارسية أم بالعربية؟! (باريس)
* خليل زينب – جريدة السفير