كانت المرّة الأولى لزيارة العراق رحلة مفصليّة في حياته ترقَّبها كلّ سنة، حضّر لها، جهّز المال، مستعجلًا مشتاقًا، حتّى كأنّه انفصل عن كلّ ما حوله من وجود وصار بكلّه العراق. استأذن والده للسّفر، وودّعه، كما في كلّ مرّة يسأله أبوه ان كان يحتاج إلى المال، فيبتسم محمّد ، "رتّبت كلّ شيء" ، كيف لا والأمور تتعلّق بزيارة الحسين عليه السلام ؟!
منذ لحظة وصوله إلى مطار بيروت ظهر التأثّر الشّديد في قسمات وجهه، ترتعد فرائصه شوقًا، وتراه يتمنّى لو يزاحم النّاس على مقاعدهم في الطَّائرات التي سافرت قبله، رافقته تلك الحالة المعنويّة طوال فترة تواجده في العراق. لقد كان في حالٍ غريبة لا يعرفها إلّا من أتى الحسين عليه السلام بقلب سليم.
في النّجف، حينما وصل إلى مقامِ الأمير، ركع بلهفة عارمة وجعلَ يتبارك بعتبة المقام، يتساقط النّور من عينيهِ فُيشعلُ الورد في وجنتيهِ، وما بين فناءٍ واشتعالٍ تضجّ روحه:
"مولاي أنا حفيدك، جئتك زائرًا فاقبل زيارتي ودعائي ".
ولم يكن يرى لأعماله أيّ أثرٍ ووجود بل جلّ طمعه بكرم آلِ البيت وليس بما حمله في جعبته من الصّالحات. قبل أن يرى قبّة المقام لم يتمالك نفسه التي شدّها شوق عجيب، فلم تحمله ساقاه، وأفلت زمام قلبه، إنّه ذاهبٌ إلى معشوقه. فردَ جناحَيْه وشرع بالصّراخ ، وهو يدرك جيدًا أنّ من يذهب إلى حضرة الائمّة لا يعود منه شيء بل يبقى بكلّه هناك ، طأطأ الهامة وجثا ، ومن ثمّ سجد لله ، حتى انكسر قلبه وتشظّى...
* من كتاب "وقرّبناه نجيّا"