قصصه الشخصية

قد أفلح من زكّاها

قد أفلح من زكّاها

قبل خمس سنوات قال لي ماما لقد قررت منذ اليوم أن لا آكل "الكبة النية" فقد سمعت أنّها مدعاة لقسوة القلب. كيف لا يفعل وهو ذو القلب الرقيق الحنون! وبعد مدة اتخذ قرارا بالإقلاع عن شرب المشروبات الغازية إذ شعر أنّها غير صحيّة

لم أناقشه ولم أشجّعه ،احترمت رغبته وله أن يختار لنفسه ما يشاء واعتبرتها مسائل تتعلّق بمرحلة المراهقة وتاثير التغييرات البيولوجية عنده، قلت في نفسي سيعود بعد أيام لعاداته

ومضت السنين وهو ثابت على ما اختار لنفسه. وحدث قبل شهر من استشهاده أن صنعت له أكلته المفضّلة (لازانيا) ووضعتها أمامه، وبجانبها طبق من طعام لا يحبّه كثيرا. انشغلت عنه وليتني لم أنشغل عنك يومًا يامالئ روحي، ثم عدت إليه لأجد طبق (اللازانيا) كما هو! سالته لما لم تاكل؟ أليس لذيذا؟ قال بلى إنّه لذيذ، لذا لم آكل منه. قلت له وما هو هذا؟ مخالفة الهوى؟ وضحكت. ثم  قلت  له: كُل منها فقط هذه المرة ولن أعاود طبخها في المرّات المقبلة! قال بل تعاودين الطبخ يا أمي  وأعاود الإمتناع عنها.

لم أفهمه، قلت ولما كل هذا؟ لقد ذكّرتني بحادثة مع أحد الصّالحين عندما قام بوضع الملح على بطيخ اشتهاه قلبه. ضحكت كثيرا فأنا أخاطب ولدي الذي لا يشبه أحدا من الذين نقرأ عنهم  فهو طفلي الصغير بعد.

ومضى بعد شهر إلى تدمر، مضى وهو يقول لي "إلى تدمر يا ماما! إلى تدمر!" لم أعلم أنّها آخر محطّاته وأنّها ستحفر في ذاكرتي إلى الأبد، (تدمر) كم فيها من حروف اسمك يا بنيّ وعاد، عاد مستشهدا!

فزارنا بعد أيّام من استشهاده صديق له كان معه في أرض المعركة ليخبرنا كيف كان تامر في آخر لحظاته يشعّ نورا وعزيمة يصف الحور والجنّة يطلب الشهادة ويشتاقها، كالمجدب يطلب مطرا، يحلم ويبتسم، ويتمنى، فوصف لنا كيف ثبت في لحظاته الأخيرة وقاتل مع الأبطال حتى قتل، ثم قال عجيب كيف ثبت، كيف نال الشهادة ما هو سرّهم؟

قلت: إنّها اللازانيا وغيرها من الأهواء التي عمل على مخالفتها بل نزعها بالقوة من نفسه.

عاش بيننا يجاهد نفسه ويزكّيها حتى صارت لطيفة كفراشة فحلّق سريعا خفيفا عارفا مؤكدا أنّ ما نيل المطالب بالتمنّي وأنّه قد أفلح من زكاها فطوبى ثم طوبى لمن عرف نفسه فعرف ربّه. عَرَّفَ الله بيني وبينك يوم القيامة يا ولدي ويا قرة عيني.