أشاهد كل الرسائل. الرسائل التي وجدتَها و تلك التي لم تجدها. رسائل بناتك. "أحبك بابا" ... هذه رسالة بتول. "متى ترجع"؟ و هذه رسالة مليكة...
أفتح خزانة ملابسك. تملأ رئتاي رائحة عطرك الخفيف. نفس العطر الذي كنت تحبه كثيراً. لا أستطيع ان أشاهد ملابسك. أضع قميصك على وجهي و أُخرج من جيبه تلك الورقة الصغيرة
- أنا بانتظارك
أضع القميص على وجهي مرة أخرى و أردد بهدوء " أنا بانتظارك"
يقولون بأن هذه التصرفات تكون فقط في بداية الزواج، و لكن لا ... لم يكن الامر كذلك. أنا حتى بعد إنجاب زينب و بتول و مليكة كنت أكتب لك هذه الرسائل القصيرة، كنت أضعها بين ملابسك، أثناء جمعي لأغراضك وحقيبتك الصغيرة، في جيب قميصك، في جيب بنطالك ... كنت أضعها في لباسك الصوفي ... حتى في قبعتك الصوفية الزيتية، حتى بين أوراق الكتاب الذي كنت تأخذه معك. أفتش بأصابعي المرتعدة جيب بدلتك العسكرية وأجد الكثير من الرسائل القصيرة التي جمعتَها أنت كلها بعد اكتشافها. أقرأ كل واحدة منها بهدوء.. "اشتقت لك"
"عندما تعود ستسلم عليك ابنتنا الجديدة زينب..." تذكرت ذلك اليوم الذي أتيتَ فيه و قلت لي بأنك تريد أن تذهب. تماماً قبل أسبوع من موعد ولادة ابنتي. ماذا كنت أستطيع أن أقول لك؟ هل كنت أستطيع أن أقول لك لا تذهب؟ هل كنت أستطيع أن أقول انتظر ريثما ألِدُ؟؟ كنت أستطيع! و لكن لم أكن أريد. أنا كنت أحتاجك تماماً مثلما تكتاج كل امرأة أن يكون زوجها بجانبها في ولادتها الأولى. و لكن قلت لك. أنا في هذا الخط معك اذهب... الله معك. أيّ حرب كانت ؟ معركة القصير. أفتش بين ملابسك الشتوية. أجد رسالة أخرى " بابا قريبًا يسقط سني " أبتسم دون إرادة مني. هذا خط ابنتي زينب. و هذه جملة بتول " بابا سأشتاق لك كثيرًا " طوال سنوات كنا نكتب معا لك الرسائل. أنا و ابنتيك الصغيرتين زينب و بتول.. يقولون هذه التصرفات فقط لمن هم في أول زواجهم. ولكن أنا إلى كم سنة بقيت أكتب لك هذه الرسائل القصيرة؟ و إلى كم سنة كنت أنت تبحث عن تلك الرسائل التي كنت أدسها لك حتى بين المكسرات و الزبيب في جيب حقيبتك الصغيرة؟ و بعدها شاركنني بناتك؟ لن أنسى كيف كنت كل ما تجد إحدى الرسائل تتصل بي. كنت تقول بشوق عجيب رسالتك وصلت و كنت تسأل هل من رسائل أخرى؟ و أنا كنت أضحك و أقول يجب عليك أن تبحث و كنت أعرف أن هذه الرسائل ترفع معنوياتك. كنت أحب ان أكون إلى جانبك. حتى وسط المعارك التي لم أكن أستطيع فيها أن أكون معك كالقصير أو تلك اللحظات التي وقعتم فيها في الحصار. و في هذه الحرب الجديدة التي فتحت فمها مثل مارد وحشي جريح ينفث من فمه النار و الدم. لم أكن أستطيع أن أكون إلى جانبك لكنني كنت أستطيع أن أرفع معنوياتك بطريقتي الخاصة ... ألم أكن أستطيع؟ كنت أريد أن أُطمئن قلبك. رسالة أخرى. هذه المرة داخل كفوفك الصوفية
- لا تقلق من أجلي و من أجل البنات ... نحن بخير ...
و هل كنا بخير دونك؟ لم نكن. كنا نعيش كل يوم ونحن ننتظر خبر شهادتك ... وكل ثانية كانت تمضي كشهر ... كسنة ... و هل نكون نحن بخير دونك؟ لا ... و لكن كان من واجبي أن أرفع معنوياتك. كما حدث ذلك اليوم. قبل معركة القصير عندما ابتسمتُ و قلت لك لا تقلق. و كنت أعرف بأن البعض يلومونك بأنك في هكذا ظروف تترك زوجتك الحامل التي ستلد خلال بضعة أيام. و لكن ... أنا قررت أن أكون إلى جانبك و لو لم أكن أستطيع أن أكون إلى جانبك. لم أكن أريد أن أكون مانعًا في طريقك. أشاهد كل الرسائل. الرسائل التي وجدتَها و تلك التي لم تجدها. رسائل بناتك. "أحبك بابا" ... هذه رسالة بتول. "متى ترجع"؟ و هذه رسالة مليكة. مازلت لا أعلم هل قرأت الرسالة الأخيرة أم لا .. الرسالة التي كانت في جيب قميصك الأجمل. القميص الذي كنت أحبه كثيرًا. لا أعلم هل بقي شيئ منها بعد تفجير البايجر أم لا. لا أستطيع أن أشاهدها. ربما رأيتَها. ربما لا ... ربما لم تجد الفرصة لتجد هذه الرسالة القصيرة التي وضعتها في جيب قميصك. هل بقيت؟ لا أعلم. هل وجدتها؟ لا أعلم ... تقترب يداي المرتعدتان الى الجزء المبتقي من قميصك المحترق الممزق. و أبتعد عنه. أجمع كل قدراتي و أمسح دموعي و أفتش في جيبه الممزق. أجد رسالة. هذا يعني أنه لم تجدها أنت ... وإلا كنتَ أخبرتني. أو ربما وجدتَها ... قبل شها.دتك ... ربما لم تجد الفرصة لتخبرني. لا أعلم ..
الرسالة هي الأخرى أصبحت ممزقة و محترقة و دامية. أنظر إلى كلماتها المبتقية و أردد بهدوء:
- لا تقلق من أجلنا. أنا و بناتك معك في هذا الخط. إلى نهاية الطريق ... إلى الأبد
* رقية كريمي - عن لسان زوجة الشهيد الدكتور محمد زكريا عباس